سورة النحل - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَن َّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)}.
التفسير:
قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
فى هذه الآية أمور:
أولا: مناسبتها لما قبلها.. فقد ذكرت الآيات السابقة، موقفا من تلك المواقف اللئيمة، التي كان يقفها المشركون من النبىّ.. وهذا الموقف هو اتهامهم للنبىّ، بأنه افترى على اللّه هذا القرآن الذي جاءهم به، وأنه إنما تلقى هذا القرآن من أحد علماء أهل الكتاب.. ولهذا كان تكذيبهم له، وتصدّيهم لدعوته، وتطاولهم عليه وعلى من آمن به، بالضرّ والأذى.. وقد امتحن كثير من المؤمنين في أنفسهم.. كبلال، وعمّار بن ياسر، وأبيه وأمه، حتى لقد مات بعضهم تحت وطأة العذاب الذي كان المشركون يرمونهم به، في غير رحمة أو مبالاة! وفى مواجهة هذا البلاء الذي استمر بضع سنوات، لم يكن أمام المسلمين إلا أن يهاجروا، وأن يوطنوا أنفسهم على استقبال الأذى، والصبر على المكروه حتى الموت.
وقد هاجر كثير من القادرين على الهجرة.. الذين يملكون أمر أنفسهم.
وتخلف كثيرون، لم يكن أمرهم إلى أيديهم، إذ كانوا في جملة العبيد والإماء.
أو تحت حكم العجز والمرض.. ونحو هذا.
وفى المتخلفين من صبر حتى مات تحت وطأة البلاء، مثل سميّة أم عمار بن ياسر، ومنهم من رأى أن يرى المشركين منه، أنّه قد استجاب لهم، ورجع عن الدين الذي آمن به على يد محمد- فأعطاهم بلسانه ما لم يسمح به قلبه، الذي ظلّ على إيمانه باللّه، وولائه للدّين الذي دخل فيه.. ومنهم من أعطى المشركين بقلبه ما أعطاهم بلسانه.. فعاد كافرا.. ودخل في الكفر في غير تحرّج أو تأثّم، بل اطمأن إليه، وشرح صدره له! ولا شك أن هذه حال أثارت البلبلة والاضطراب في نفوس المسلمين، وخاصة أولئك الذين انعقدت قلوبهم على الإيمان، وإن صرحت ألسنتهم بالشرك، تقيّة، تحت حكم القهر والاضطرار.. فهم- والحال كذلك-
يعانون من صراع حاد، بين ظاهرهم هذا الذين يعيشون به في الناس، وبين باطنهم الذي يعيشون فيه مع دينهم الذي أمسكوا به في قلوبهم.. فكان من رحمة اللّه بالمؤمنين أن تقبّل ما في قلوبهم، وتجاوز لهم عما قالوا بأفواههم.
فقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ}.
فهذا الاستثناء يخرج من أكره، فقال كلمة الكفر بلسانه، واحتفظ في قلبه بالإيمان الذي انعقد عليه.. ويلاحظ هنا أنه لم يتقرر في الآية حكم لأولئك المستثنين من الكفر، بل تركوا هكذا، بمعزل من الكافرين، الذين عادوا إلى الكفر بأفواههم وبقلوبهم جميعا.. وهذا يعنى أن {التقيّة} وإن كانت بابا من أبواب التيسير والرحمة بالمؤمنين، إلا أنها باب محفوف بالمخاطر، لا يدخله الإنسان إلا على حذر وإشفاق، وإلا ريثما يمسك نفسه من التّلف.. فإن هذه حال لا ينبغى أن يركن إليها المؤمن، أو يطمئن إلى مقامه فيها.. إذ هو يلبس فيها ثوب النفاق ظاهرا.. ولا يجتمع إيمان ونفاق أبدا.
روى أن المشركين من قريش أرادوا عمار بن ياسر، وأباه ياسرا وأمّه سميّة، على الكفر بعد أن أسلموا، وأخذوهم بالبأساء والضراء، فأبوا، فربطوا سميّة، بين بعيرين ثم وجئت بحربة في قبلها، وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال، فماتت، ومات ياسر قتيلا كذلك، فكانا أول قتيلين في الإسلام، أما عمار فأعطى المشركين بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
إن عمارا كفر!! فقال- صلى اللّه عليه وسلم- «كلا. إن عمّارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه!!» وروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين، فقال لأحدهما ما تقول في محمد؟
قال: {رسول اللّه} فما تقول فىّ؟ قال: وأنت أيضا..! فخلّى سبيله.. ثم قال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: {رسول اللّه} قال: فما تقول فىّ؟ قال: أنا أصمّ! فقتله.. فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فقال: {أما الأول فقد أخذ برخصة اللّه تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق.. فهنيئا له}.
وثانيا: هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة.
فقد جاء نظم الآية على غير مألوف اللغة، حيث جاء الشرط: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ} ولم يذكر له جواب.. ثم دخل على هذا الشرط الاستثناء:
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ} ثم لم يذكر لهذا الشرط والاستثناء الوارد عليه جواب.. ثم ورد هذا الاستدراك: {وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} محمّلا بشرط، وجواب.
أما الشرط، فهو الشرط السابق موصوفا بمفهوم المخالفة للاستثناء الوارد على هذا الشرط، وأما الجواب، فهو الجواب الذي يصلح للشرطين معا.. ولكنه اتجه إلى الشرط الثاني، بعد أن وقع الاستثناء على الشرط الأول.. والتقدير: من كفر باللّه من بعد إيمانه شارحا بالكفر صدره فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب عظيم.. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
هذا ما يدل عليه مفهوم الآية الكريمة، وإن جاء نظمها على هذا الأسلوب الذي تراه!! والسؤال هنا هو: ماذا وراء هذا النظم الذي جاء على غير مألوف اللغة؟
والجواب- واللّه أعلم- هو أن تلك الحال التي تعرضها الآية الكريمة من أحوال المؤمنين، حين يمتحنون في دينهم، ويتعرضون للفتنة في عقيدتهم- هذه الحال ليست من الأحوال المألوفة للإنسان، بحيث يروض نفسه عليها، ويوطنها على احتمال مكروهها.. وإنما هى تجربة قاسية يلقاها الإنسان مرة واحدة في حياته، حين تحمله البلوى على أن يتبدّل دينا بدين، وعقيدة بعقيدة، ولو كان ذلك في ظاهر أمره، وعلى ما يرى الناس منه.. فليس الدين ثوبا يلبسه الإنسان زمنا حتى إذا يلى خلعه، واستبدل به غيره.. وإنما هو أشبه بجلد الإنسان، وبالصبغة التي صبغه اللّه عليها.. فهو لون واحد لا يتغير، ولا يتبدل! هى تجربة قاسية إذن، تلك التجربة التي يخرج فيها الإنسان عن دينه، ولو ظاهرا، تحت حكم القهر والتسلط.. حيث يعالج الإنسان في كيانه الداخلى صراعا صارخا، تتمزق معه مشاعره، وتتصدع به وحدة بنائه الفكرى، وإذا هو في تيه، لا يطلع عليه من آفاقه، إلا ما يزعجه ويؤرقه.
ومن هنا جاء النظم القرآنى في الآية الكريمة على هذا الأسلوب، الذي يمسك بتلك المشاعر المضطربة، ويصور تلك النفوس القلقة المذعورة، التي انعقدت في سمائها سحب متراكمة، ترمى برعودها، وبروقها، وصواعقها، في غير مهل أو انقطاع.
وهكذا يحكى النظم القرآنى بموسيقى ألفاظه، ما تحدّث عنه الألفاظ بدلالة معانيها، فيقع المعنى في النفس موقعا متمكنا، حيث يدخل عليها مصوّرا، مجسدا.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ}.
الإشارة هنا إلى هذا الوعيد الذي توعد اللّه به سبحانه، أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم، وعادوا إلى الكفر الذي كانوا فيه، وأنسوا إليه كما يأنس الغريب بلقاء أهله، بعد غيبة وفراق، فلم يقع في نفوسهم وحشة للكفر، ولا تكرّه له.
فهذا الغضب الذي صبّه اللّه عليهم، وهذا العذاب العظيم الذي أعده لهم، إنما هو بسبب أنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وآثروا العافية مع الكفر، على البلاء مع الإيمان..! {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
والإيمان- في حقيقته- هو ابتلاء، وأقلّ ما يبتلى به المؤمن، هو التكاليف الشرعية التي تحملها أوامر الدين ونواهيه.. ثم فوق هذا ضروب من الابتلاء، في هذا الصراع الذي يكون بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، قد ينتهى آخر الأمر إلى الاستشهاد في سبيل اللّه! وفى هذا يقول الحق جل وعلا: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} [1- 3: العنكبوت].
وفى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} إشارة إلى سبب آخر من أسباب وقوع الكافرين تحت طائلة هذا الوعيد، وهو أنهم من جبلّة مظلمة، لا تقبل النور، ولا تتهدّى إليه.. فكان أن أضلهم اللّه، وتركهم في ظلمات يعمهون.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ}.
الإشارة {بأولئك} واردة على هؤلاء الكافرين الذين وصفهم اللّه سبحانه وتعالى في الآية السابقة، بأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وبأنهم حرموا من هداية اللّه وتوفيقه، لما انعقدت عليه قلوبهم من ظلام وضلال.. إذ قد طبع اللّه على قلوبهم، وختم عليها بخاتم الكفر، فلا تقبل إيمانا، ولا تطمئن إليه.. كما ختم اللّه على سمعهم، فلا يسمعون كلمة الحق، ولا يستجيبون لها، وختم على أبصارهم، فلا يبصرون مواقع الهدى، ولا يتجهون إليها.. فكانوا في غفلة مطبقة، عن كل ما يصلهم بالحق، أو يلفتهم إليه.
قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ}.
هو تعقيب على هذا العرض الكاشف لأولئك الذين كفروا، وعموا عن الهدى، وصمّوا عن الداعي الذي يدعوهم إليه.
فهؤلاء لا شك في أنهم هم الخاسرون، إذ يجيئون إلى هذا اليوم العظيم، وليس معهم غير الكفر، وحسبه جرما، أن يكون صاحبه حصب جهنم خالدا فيها أبدا.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
العطف ب {ثم} هنا، هو عطف حدث على حدث، وموقف على موقف.
فهناك موقف للكافرين الذين لبسوا الكفر بعد أن دخلوا في دين اللّه، ونكصوا على أعقابهم لأول مسّة مستهم من أذى في سبيل اللّه.. وهنا موقف لأولئك الذين لبسوا الكفر ظاهرا، واستبطنوا الإيمان.. تقية من تلف النفس، وفرارا من وطأة البلاء.
وفرق كبير بين هؤلاء، وأولئك.. ولهذا جاء العطف بالحرف {ثمّ}، الذي يشير إلى هذا الفاصل المعنوي الشاسع، الذي يفصل بين الفريقين.
فأولئك كافرون.. وهؤلاء مؤمنون.. وما أبعد ما بين الكافرين والمؤمنين:
{لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ}.
وفى قوله تعالى: {رَبَّكَ} بإضافة النبي الكريم إلى ربه الكريم، مزيد من الفضل والإحسان إلى رسول اللّه من ربه، الذي يضيفه إليه، ويدعوه إلى ساحة كرمه وإحسانه، وقد كررت هذه الدعوة، فكانت إحسانا إلى إحسان، ولطفا إلى لطف، وحقّ للنبى الكريم بهذا الإحسان أن ينزل من ربه هذه المنزلة التي لا تعلوها منزلة لبشر.. وكيف واللّه سبحانه وتعالى يقول له:
{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [113: النساء]. ويقول له: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى}.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا}.
هو تطمين لقلوب أولئك الذين فتنوا في دينهم، وأعطوا كلمة الكفر بألسنتهم، ولم يعطوا من الإيمان الذي انعقدت عليه قلوبهم شيئا.
فهؤلاء قد كشفوا عن حقيقة إيمانهم بهذا السلوك الطيب، الذي أخذوا فيه طريقهم مع المؤمنين.. فهاجروا مع المهاجرين، وجاهدوا مع المجاهدين، وصبروا على ما لقيهم من بلاء وشدة في مواقف الجهاد. فوطّنوا أنفسهم على الموت في سبيل اللّه، دون أن تحدثهم أنفسهم بالفرار من وجه العدو.. فهؤلاء يغفر اللّه لهم ما كان منهم، ويقبلهم في عباده المؤمنين، المهاجرين، المجاهدين.
وفى العطف ب {ثم} فوق أنه عزل للذين أعطوا كلمة الكفر بألسنتهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، عن أولئك الذين شرحوا بالكفر صدرا- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- فيه إشارة إلى أن مغفرة اللّه لم تجئهم إلا بعد تراخ، وإبطاء، حتى لقد كادت لا تلحقهم، وفى هذا ما يلقى ظلالا معتمة على التقية، وأنه لا يلجأ إليها المؤمن إلا عند الضرورة القصوى.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} إشارة إلى المغفرة التي عاد اللّه سبحانه وتعالى بها على أولئك المفتونين، بعد أن هاجروا، وجاهدوا وصبروا.. فقد رحمهم اللّه، وغفر لهم، وأدخلهم في عباده المؤمنين.
والضمير في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِها} يعود إلى تلك الحال التي تلبّس بها المفتونون حين فتنوا في دينهم، وأعطوا كلمة الكفر بأفواههم.
وفى عودة الضمير إلى تلك الحالة دون ذكرها، إشارة إلى أنها شيء بغيض لا يذكر في هذا المقام، الذي لبس فيه أولئك المفتونون ثوب الإيمان ظاهرا وباطنا، والذي شملتهم فيه رحمة اللّه ومغفرته.. فكان من تمام تلك النعمة التي أنعم اللّه بها عليهم ألا يذكّروا في هذا المقام بما يسوءهم، وألا تمسّ مشاعرهم ذكريات هذا الماضي البغيض، الذي انسلخوا منه وفارقوه.. ثم كان من الحقّ أن يدفن هذا المنكر، وألا يرى المؤمنون له وجها أبدا.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
هو تذكير بهذا اليوم العظيم، يوم القيامة، حيث يحاول كل إنسان جهده أن يدفع عن نفسه شرّ هذا اليوم، فيتعلّق بكلّ ما يظن أنه مغن عنه شيئا في هذا الكرب العظيم، وحيث يكون الإنسان أكثر ما يكون حاجة إلى مغفرة اللّه ورحمته.. فإذا ذكر الإنسان هذا اليوم في دنياه، وذكر ما يستقبل الناس فيه من أهوال، ثم ذكر رحمة اللّه، ومغفرته، اللتين ينالهما المتقون من عباده، ويستظل بظلمها المؤمنون الذين يخشون ربّهم بالغيب- إذا ذكر الإنسان ذلك كلّه، كان في ذلك ما يشدّ عزمه ويقوّى يقينه، ويمسك به على طريق الإيمان، وإن مسّه الضرّ، وأصابه المكروه.
فقوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} متعلق بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
أي إن مغفرة اللّه ورحمته يتجليان في هذا اليوم، يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها.. وليس هذا بالذي يقصر تجلّى رحمة اللّه ومغفرته على هذا اليوم، إذ رحمة اللّه ومغفرته لا يحدهما زمان، ولا يحصرهما مكان.. ولكنّ الإشارة إليهما في هذا الظرف، إشارة إلى شدة الحاجة إليهما فيه، وأنه إذا كان الإنسان في حاجة دائمة إلى مغفرة اللّه ورحمته، فإنه في هذا اليوم أكثر ما يكون طلبا لهما، واحتياجا إليهما.


{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ}.
الواو هنا للاستئناف، ووصل حدث بحدث.
وهذا الحدث هنا، هو المثل الذي ضربه اللّه لمن يعقل، ويعتبر، ويأخذ من مضرب المثل عظة وعبرة.
والمثل المضروب هنا، هو تلك القرية التي كانت آمنة مطمئنة، بما يسوق اللّه إليها من نعم.. فبطرت معيشتها، وكفرت بأنعم اللّه.
وقد اختلف المفسّرون في هذه القرية.. أهي قرية من قرى الأولين التي أهلكها اللّه ودمدم على أهلها؟ أم هى مكة.
والذي نميل إليه هو أن هذه القرية هى واحدة من تلك القرى التي أهلكها اللّه، والتي أشار إليها اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ} [11: الأنبياء].. وبقوله سبحانه: {وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [59: الكهف] وبقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [48: الحج].
فأية قرية من تلك القرى الظالمة التي أهلكها اللّه بظلمها، والتي عرف المشركون أخبارها وما حلّ بأهلها- أية قرية من تلك القرى صالحة لأن تكون المثل المضروب لأهل مكة.. يرون في مخلّفاتها العبرة والعظة، إن كانوا يعتبرون ويتعظون.. فلقد عرف مشركو قريش ما حلّ بالقرى التي حولهم من عذاب اللّه.. فيما قصّ عليهم سبحانه وتعالى من أخبار {سبأ} في قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [15- 17: سبأ].
فهذه القرية- مثلا- كانت- كما يقص القرآن الكريم من أخبارها- في حياة طيبة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، تحفّ بها الجنات عن يمين وشمال، فأكل أهلها من رزق اللّه، ولم يشكروا له، بل كفروا بنعمه، ومكروا بآياته، فأخذهم بالبأساء والضرّاء، وبدّلهم بجنتيهم ذواتى الثمر الطيب، والخير الموفور، أرضا قفرا لا تمسك إلا ببقايا حياة باهتة من شجر لا يعطى إلا خسيس الثمر، وقليله..! وهكذا كل من يكفر بنعم اللّه، ويمكر بآلائه.
وفى قوله تعالى: {فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} إشارة إلى ما حلّ بهذه القرية الظالمة من بلاء، وما وقع عليها من بأس اللّه إذ جاءها، فقد بدل اللّه أمنها وطمأنينتها، جوعا دائما وخوفا متصلا، حتى لقد اشتمل عليها الجوع والخوف، كما يشتمل الثوب على الجسد ويحتويه، وحتى أنه كلما بلى هذا الثوب، ألبسهم اللّه ثوبا غيره.. وهكذا، لا يخلعون ثوبا إلا لبسوا غيره، ليذوقوا العذاب، بما كانوا يصنعون.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ} هو إشارة إلى أن هذه القرية الظالمة، التي حلّ بها هذا البلاء، لم تؤخذ هكذا على غير حجّة قامت عليها، بل لقد بعث اللّه سبحانه وتعالى إلى أهلها رسولا منهم، فبلغهم رسالة ربّه إليهم، ودعاهم إلى الإيمان باللّه، وإلى الاستقامة على طريق الحقّ والخير، فأبوا إلا عنادا وكفرا.. فكان أن أوقع اللّه بهم البلاء، كما يقول سبحانه: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [15: الإسراء].
وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} هو إلفات إلى أهل مكة خاصة، وإلى كل ذى عقل ونظر، أن يأخذوا العبرة من هذا المثل، وأن يجدوا في النعم التي أنعمها للّه عليهم، داعية يدعوهم إلى شكر اللّه، والولاء له.. وإلّا حلّ بهم عذاب اللّه، كما حلّ يتلك القرية الظالمة.
وفى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} تحريض المؤمنين على التمسك بالإيمان باللّه، وإخلاص العبادة له وحده، وأن يقطعوا كل صلة كانت تصلهم بمعبوداتهم التي عبدوها من دون اللّه، وذلك أنهم كانوا في جاهليتهم يدّعون أنهم مؤمنون باللّه، وأنهم إنما يعبدون هذه الأوثان التي يعبدونها ليتقربوا بها إلى اللّه، كما يقول اللّه سبحانه على لسانهم: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [3: الزمر].. وهذا ضلال مبين، وشرك صراح باللّه، فهو سبحانه الذي تفرّد بالخلق والرزق، فواجب أن يفرد بالولاء والعبودية.
قوله تعالى: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو بيان لتلك المآكل الخبيثة التي يجب على المؤمن باللّه أن يتجنّبها، حتى يكون مأكله حلالا طيبا. وتلك المآكل الخبيثة، هى: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما ذكر اسم غير اسم اللّه عليه.. فمن اضطر إلى أخذ شيء من تلك المآكل، {غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} أي غير محلّ لها، وغير متجاوز حدود الحاجة التي يدفع بها الهلاك الذي يتعرض له- {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يتجاوز للمضطر عن هذا المنكر الذي ألمّ به، وعليه أن يخلّص نفسه منه في أقرب فرصة تسنح له.
إنه أشبه بالتقيّة، التي يتقى فيها المؤمن بلسانه، الأذى الذي يعرض له، إذا هو وقع ليد عدوّ من أعداء اللّه.
قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
فى هذا تحذير لأولئك الذين تدعوهم أهواؤهم إلى إتيان المنكر، فيسوّغونه بتلك الصفات الكاذبة التي يخلعونها عليه، ويلبسونه بها ثوب الحلال الطيب.. فما اشتهته أنفسهم جعلوه حلالا طيبا، وإن كان في حقيقته حراما خبيثا، وما لم تمل إليه أهواؤهم وسموه سمة الحرام، وإن كان حلّا مباحا.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ} إشارة إلى أن هذه المقولات التي يقولونها في حلّ الأشياء وحرمتها، إنما هى مما أملته عليهم أهواؤهم، وأنهم لم يحتكموا فيها إلى شرع أو عقل.
وقوله تعالى: {الْكَذِبَ} بدل من ضمير النصب المحذوف، وهو العائد على الاسم الموصول من الفعل {تصف} أي ولا تقولوا لما تصفه ألسنتكم، الذي هو الكذب، فما تصف ألسنتهم إلا كذبا، ولا تقول إلا زورا وبهتانا.
وقوله تعالى: {هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ} هو مقول قولهم، أي إن قولهم عن مطعوماتهم، هذا حلال، وهذا حرام، هو قول كذب، قالوه لينتهى بهم إلى الافتراء على اللّه.. فاللام في قوله تعالى: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} هى لام العاقبة.
وقوله تعالى: {مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} هو تعليل لنفى الفلاح عن الذين يفترون على اللّه الكذب، فإنهم بافترائهم الكذب قد خسروا خسرانا مبينا.. ذلك أن هذا الذي عاد عليهم من كذبهم وافترائهم، هو شيء تافه، استرضوا به أهواءهم في هذه الحياة الدنيا، فأوقعهم في هذا الذي هم فيه، من عدوان على حرمات اللّه، وعصيان للّه، وشرك به.. وذلك هو الخسران المبين..!
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
هو ردّ على الذين هادوا، أي اليهود، الذين كانوا من وراء المشركين، يزكّون أفعالهم المنكرة، ويقولون لهم: إن هذا الذي أنتم عليه فيما تحلّون وتحرّمون من مطاعمكم، هو الحق، وأنه من شريعة إبراهيم، وأن ما يحدثكم به محمد، هو مما يفتريه على اللّه.. فاثبتوا على ما أنتم عليه، ولا تستمعوا له..!
وقد رد اللّه عليهم سبحانه وتعالى بقوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ.. فَإِنَّهُ رِجْسٌ.. أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ..} [145: الأنعام].. ثم كشف سبحانه وتعالى عما أخذ به اليهود من عقاب، فحرّم عليهم طيبات كانت أحلّت لهم، نكالا لهم، بسبب عدوانهم على حرمات اللّه، وافترائهم عليه.. فقال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ.. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ} [146: الأنعام].
ففى قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} إلفات إلى هذا الموقف الذي وقفه اليهود من النبي، حين دعا المشركين بكلمات ربه، إلى أن يدعوا الزور الذي أدخلوه على مطاعمهم، كما ذكر اللّه لهم ذلك في قوله تعالى: {وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [138- 139: الأنعام].. فجاء اليهود إلى المشركين يكذبون النبي فيما يقول لهم عن ربه في هذه المطاعم، فرمى اللّه اليهود بهذا الخزي الذي حملته إليهم الآية الكريمة: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ...}.
فهذا الذي حرمه اللّه سبحانه وتعالى على اليهود في تلك الآية هو، ما أشارت إليه الآية:
{وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ}.
وهذا يقطع بأن آية الأنعام قد سبقت آية النحل نزولا.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى الضالين عن سبيله، والشاردين عن الحق الذي يدعو إليه رسوله، أن يرجعوا إلى اللّه من قريب، وأن يتوبوا إليه، ويصلحوا من أنفسهم ما أفسدوا.. فإن فعلوا، وجدوا ربّا غفورا رحيما، يغفر لهم ما كان منهم، ويدخلهم في عباده المؤمنين.
والجهالة في قوله تعالى: {عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ} ليس المراد بها الجهل بالشيء، والوقوع في الإثم عن جهل بأنه إثم.. فهذا من المعفوّ عنه ابتداء، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ} [115: التوبة].
وإنما المراد بالجهالة هنا، ما يركب المرء من نوازع الحمية والعصبية، وما يستولى عليه من حماقات الكبر والعناد.. وهذا هو أكثر ما يحمل الناس على معاندة الحق، ومعاداته، ويدعوهم إلى إتيان المنكرات، وركوب الضلالات وإلى هذا المعنى للجهالة، يشير الشاعر الجاهلى، عمرو بن كلثوم بقوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالدعوة هنا إلى الرجوع إلى اللّه، دعوة عامة إلى كل شارد عنه، مسوق بهواه، محمول على مطية حميته، وعناده.
وفى العطف ب {ثم} في الموضعين هنا، إشارة إلى هذا البعد البعيد، الذي ينتقل به الإنسان من حال إلى حال.
فالذين عملوا السوء بجهالة، ثم كانت لهم إلى أنفسهم عودة، وكان لهم معها حساب.. هم على حال مباينة بونا شاسعا، لأولئك الذين يعملون السوء، ثم لا يقع في أنفسهم ما بسوؤهم منه، ولا تمس ضمائرهم نخسة من آثاره.
فالأولون لا بد أن تكون لهم إلى اللّه رجعة، وقليل منهم من يمضى على طريق السوء الذي هو فيه إلى آخره.. والآخرون هيهات أن يراجعوا أنفسهم، ويرجعوا إلى ربهم.. وقليل منهم من يفعل. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [17: النساء].. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [135: آل عمران] والذين انتقلوا من حال المراجعة مع أنفسهم إلى حال التوبة وإصلاح ما أفسدوا، هم في حالهم الثانية على بعد بعيد من حالهم الأولى.. ولهذا جاء العطف ب {ثم} في قوله تعالى: {ثُمَّ تابُوا}.
والضمير في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِها} يعود إلى التوبة، المفهومة من قوله تعالى {تابُوا}.
وهذا يعنى أن المغفرة والرحمة من اللّه تجىء بعد التوبة من الذنب، لا قبلها.


{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)}.
التفسير:
مناسبة ذكر إبراهيم- عليه السلام- هنا في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً}.
هو ما ذكر في الآيات السابقة من موقف المشركين واليهود، من أحكام اللّه، في حلّ المطاعم وحرمتها.
ولما كان كلّ من المشركين واليهود ينتسب إلى إبراهيم- عليه السلام- ويدّعى كل منهم أنه على دينه- فناسب هذا أن يذكر إبراهيم- عليه السلام- ويذكر دينه الذي كان عليه، وإيمانه بربه، وشكره لنعمائه، الأمر الذي لم يستقم عليه أىّ من الفريقين من أبنائه.
فإبراهيم- عليه السلام- كان أمة، أي كان مجتمعا وحده، يؤمن باللّه، بين مجتمعات كلها على الشرك والكفر.. فهو بهذه الصفة يمثل أمة مميزة عن غيرها، بالإيمان، تقابل تلك الأمم التي تمثل الكفر.. فهو الإنسان المؤمن، الذي يقابل بإيمانه الكفر والكافرين جميعا.
وكان إبراهيم مع إيمانه باللّه قانتا، أي خاشعا للّه، مسلما أمره له.. وكان {حنيفا} أي مائلا عن طرق الضلال والكفر.. {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي لم يشرك باللّه أبدا، ولم تستجب فطرته لأن يعبد ما كان يعبد أبوه وقومه، فنشأ مجانبا لهذه الضلالات، عازفا عنها.
وفى وصف إبراهيم- عليه السلام- بأنه كان {حنيفا} إشارة إلى أن المجتمع الذي كان يعيش فيه إبراهيم كان مجتمعا يسير على طرق الكفر والشرك، حتى لكأن ذلك هو وجهة الحياة في زمنه، وحتى لكأن الخروج على هذه الوجهة، يعدّ ميلا وانحرافا.. وهذا مما يعظم من شأن إبراهيم، ويرفع قدره في العالمين، بين أتباع الحق، وأهل الإيمان.. فقد خرج إبراهيم بإيمانه عن هذا الإجماع المطلق، وشق لنفسه ثقبا في هذا الحائط الصفيق، المضروب حوله من الكفر، ونفذ إلى عالم النور! ولهذا استحق إبراهيم بأن يوصف هذا الوصف الكريم من ربه، بأن كان حنيفا.. والحنيف هو المائل.. ولكنه هنا ميل إلى الحق والهدى والإيمان.. ولهذا أيضا اختصّ إبراهيم- عليه السلام- بهذا الوصف دون سائر الأنبياء.. إذ كان أمة وحده.
وفى قوله تعالى: {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تعريض بالمشركين من أهل مكة، إذ كانوا يدّعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم.. فكيف يكونون على شريعته، وهم مشركون، وهو الحنيف، الذي لم يكن في يوم من أيامه من المشركين؟
وقوله تعالى: {شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
هو معطوف على خبر كان في قوله تعالى: {كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً..} أي وكان شاكرا لأنعم ربه، إذ اجتباه ربه، أي اصطفاه لرسالته، وأخرجه من عالم الكفر المتكاثف حوله، وهداه إلى الحق، والخير، والإيمان.
وفى هذا تعريض باليهود، الذين خرجوا على شريعة أبيهم إبراهيم خروجا صارخا، فكفروا بأنعم اللّه، ومكروا بآياته، وكذبوا رسله، وتنكبوا طريق الحق، وركبوا طرق الضلال.
قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}.
هو عطف على قوله تعالى: {اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}:
وفى الحديث عن اللّه سبحانه وتعالى بضمير الغيبة في قوله تعالى: {اجْتَباهُ وَهَداهُ}.
ثم الحديث عنه تعالى بضمير الحضور {وآتيناه}.
إشارة إلى تلك المنزلة التي بلغها إبراهيم عند ربه، بعد أن اصطفاه لرسالته، وهداه إلى دينه.. فقد استقام إبراهيم على هذا الطريق المستقيم، مجتهدا في الطاعة، مخلصا في العبادة، حتى اتخذه اللّه سبحانه وتعالى خليلا له، وأقبل عليه بعطاياه ومننه:
{وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً}.
فهو عطاء كريم تناوله من ربه من غير واسطة.
والحسنة التي آتاها اللّه سبحانه وتعالى إبراهيم، هى على إفرادها وتنكيرها، تسع ببركتها وخيرها، الناس جميعا.. ومن ثمرات هذه الحسنة هذا الذّكر الطيب الذي لإبراهيم في هذه الدنيا، حيث كان من ذريته الأنبياء، ومنهم:
موسى، وعيسى، ومحمد، أصحاب الرسالات السماوية التي يدين بها المؤمنون باللّه!.
وفى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} إشارة إلى ما لإبراهيم عند اللّه في الآخرة.. فهو عند اللّه من الصالحين، الذين سلموا من كل سوء، فاستحقوا منازل الرحمة والرضوان.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
العطف بثم هنا، إشارة إلى الفاصل الزمنى بين رسالة إبراهيم، ورسالة محمد، عليهما الصلاة والسلام.. وليس هذا الفاصل الزمنى على امتداده بالذي يفصل بين حقيقة الرسالتين، فهما من معدن واحد.. بل هما شيء واحد، في الأصل الذي قامتا عليه، وهو توحيد اللّه، وإخلاص العبودية.
قوله تعالى: {إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
السبت هو اليوم الذي جعله اللّه لبنى إسرائيل، يوم طاعة وعبادة، يتخففون فيه من شئون الحياة الدنيا، ويراجعون أنفسهم فيما وقع منهم من سيئات، خلال أيام الأسبوع الستة.. وبذلك يمكن أن يجد الواحد منهم فرصته في إصلاح نفسه، وتصحيح أخطائه، قبل أن يمضى بها الزمن فينساها، أو تكثر ويزحم بعضها بعضا، فيعجز عن معالجتها، وتفتر عزيمته عن لقائها.
هكذا كان يوم السبت، لبنى إسرائيل، يوما خالصا للّه، وفرصة مهيأة للتطهر من الآثام، والتخفف من الذنوب.. شأنهم في هذا شأن النصارى في يوم الأحد، والمسلمين في يوم الجمعة.. فهذا اليوم من كل أسبوع، هو أشبه بالمنازل التي ينزلها المسافر خلال رحلة طويلة شاقة، حيث تتهيّأ له في هذا المنزل فرصة للراحة والاستجمام، والتزود بالماء والطعام، وإصلاح أدوات السفر ومعدّاته، إلى غير ذلك مما يعين المسافر على قطع المرحلة القادمة، من رحلته.. وهكذا.
حتى تنتهى الرحلة، ويلقى عصا التسيار!.
ولو أحسن بنو إسرائيل استقبال هذا اليوم، واستقاموا على ما أمرهم اللّه به فيه- لكان لهم من ذلك خير كثير في دينهم ودنياهم جميعا.. ولكنهم مكروا بنعمة اللّه وكفروا بها، شأنهم في هذا هو شأنهم مع كل نعمة أنعم اللّه بها عليهم، فخانوا اللّه في هذا اليوم، وجعلوه يوم لهو، وعربدة.. فجعله اللّه نقمة عليهم، وابتلاهم فيه بتحريم، صيد البحر، فلما لم يستقيموا مع هذا الأمر، ضاعف عليهم البلاء، فأمسك عنهم السمك أن يجدوه في البحر إلا يوم السبت، وبهذا وضعهم اللّه أمام هذا البلاء، وأوقعهم في هذا الحرج.. فإن صادوا في يوم السبت أثموا، وإن لم يصيدوا حرموا الصيد أبدا.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} [163: الأعراف] ولم يحتمل القوم هذا البلاء.. فاعتدوا في السبت، وصادوا فيه ما حرم اللّه عليهم صيده.. فأخذهم اللّه بعذابه، وأوقع بهم نقمته.. فمسخهم اللّه، وألبسهم طبائع القردة، كما يقول اللّه سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ، فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} [65: البقرة].
وأكثر من هذا.. فإن اللّه قد حرم عليهم أن يعملوا في هذا اليوم عملا، وأن يتحولوا إلى جمادات لا حس لها ولا شعور.. وفى هذا تقول التوراة: اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملا ما، أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه.
هكذا تقول التوراة في الأصحاح العشرين من سفر الخروج، ولكن بنى إسرائيل لم يستقيموا على هذا الأمر ولم يحتملوا الصبر على هذا التكليف، الذي لا حرج فيه.. ولا إعنات، فكثرت حوله تأويلاتهم الفاسدة، حتى أبطلوا الأثر الطيب الذي كان سيعود عليهم منه.. ولهذا جاءهم اللّه سبحانه وتعالى بما هو أشقّ وأمرّ، نكاية بهم، ولعنة لهم.. فكان حكم التوراة بعد هذا هو: ستة أيام يعمل كل عمل وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب كل من يعمل فيه عملا يقتل.. لا تشعلوا نارا في جميع مساكنكم يوم السبت هكذا تقول التوراة في الإصحاح الخامس والثلاثين من سفر الخروج.
فالعمل في يوم السبت، يوجب على اليهودي القتل، وهذا ابتلاء عظيم من اللّه سبحانه، لهذا القطيع المعربد، حتى يكونوا من هذا الابتلاء بين أمرين، أحلاهما مر.. فإن عملوا أي عمل في يوم السبت، ولو في دفع عدوّ مغير عليهم وقعوا تحت حكم اللّه، وهو استحقاقهم للقتل، وإن لم يعملوا كانوا صيدا دانيا لكل من يريد اقتناصه.
وفى قوله تعالى: {إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}.
هو بيان لما حل ببني إسرائيل بافترائهم على اللّه في يوم السبت، وخروجهم على حكم الشريعة فيه، بما تأوّلوا من تأويلات فاسدة، أملتها عليهم أهواؤهم، فكان لكل جماعة منهم رأى فيه، وكلها آراء فاسدة قائمة على الهوى.
وفى تعدية الفعل {جعل} بحرف الجر {على} إشارة إلى أن هذا اليوم جعل لعنة على بنى إسرائيل، بعد أن كان رحمة لهم.. فما كان للإنسان، فهو خير، وما كان عليه فهو شر، كما يقول اللّه تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} [286: البقرة]- وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} تهديد لليهود، وأنهم سيؤخذون بآثامهم التي حملوها معهم، من تلك الخلافات التي وقعت بينهم في شريعة اللّه الواضحة الصريحة، التي لا تحتمل تأويلا، ولا تثير خلافا، إلا حيث تتنازعها الأهواء، وتتوارد عليها النظرات الزائغة والعقول السقيمة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7